يوميّات غزّاوية: ذهبنا للنوم واستيقظنا في عام 1948
«حلمتُ دوماً بِمِمْحاةٍ تمسح قذارة البشرية» [لوي أراغون]
«الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، الصقور لا يهمها أين تموت» (غسان كنفاني)
للشهادة، في اللغة العربية ثلاثة معانٍ صارت تتطابق، هذه الأيام، مع مواصلة أحقر منظومة عسكرية معاصرة لإبادة الشعب الفلسطيني: يستشهد الغزاويّون وهم يقرؤون عبارة الشهادة، ويشهدون لأنفسهم بما يقع لهم، في ظل صراع لم يكن يوماً أشد مما هو عليه الآن لإقرار سردية الضحية، ضحية التاريخ والراهن، وسط حملات من التعتيم والتزوير وكتم أنفاس الأصوات الحرة وتخاذل أصوات مدفوعة الأجر. سياق تنطبق عليه أكثر من غيره صرخة الشاعر الألماني بول سيلان، غداة استيقاظ الغرب المنافق على الهولوكوست النازي: «ليس للشاهد من يشهد له». من هذا المنطق، استجمعنا في هذا الملفّ شهادات ويوميات، جلّها من وسط غزة، لشهود عيان على المجازر، أبقيناها كما هي، بتواريخها، بلغتها الطرية كدماء أهلها على أرضنا المحتلة، في شاشاتنا الدامية، وفوق ضمائر الأموات الأحياء والأحياء الأموات.
19 أكتوبر 2023 – الساعة 06:55
واقف أشاهد السماء وأدعو ألا تكون بيضاء، فما زلنا نلبس ملابس صيفية، والناس بدؤوا بالحركة، انفجار ضخم هز المكان، دقيقة واحدة، هرعت سيارات الإسعاف، المكان مكتظ جداً بالسكان والمحلات كـ «العتبة» في القاهرة، حجم الضحايا كبير جداً.
أحسست بشيء يرتطم بقدمي، فإذا به حجر جرَّاءَ الانفجار، ومسافتُهُ تبعدُ 1 كيلومتر.
دلال أبو آمنة: حرة
بعد قضاء ليلتين في السجن الانفرادي ظلماً وبهتاناً.. أنا حرّة. حرّة كما كنت وحرّة كما سأبقى دوماً وأبداً.
وجسدي الذي هَزُل بسبب إضرابي عن الطعام طوال الثلاثة أيام أصبح الآن أقوى.. وإيماني بالله أعمق.. وقناعتي برسالتي وتكليفي زاد أضعافاً..
حاولوا تجريدي من إنسانيتي، وإسكات صوتي وإذلالي بكل الطرق، شتموني وكبّلوا يديّ وساقيّ بالقيود، لكنهم بهذا جعلوني أكثر شموخاً وعزة..
سيبقى صوتي رسولاً للحب مدافعاً عن الحق في هذه الدنيا.
شكراً لكل من دعمني من كل أنحاء العالم، إن كان بكلمة أو بدعوة أو بموقف.
ومحبّتي وامتناني لعائلتي الحبيبة لزوجي وأولادي وأمي وأخواتي وأصدقائي الذين تحمّلوا وعانوا الكثير من أجلي.
أحبّكم جميعاً في الله.
والحمد لله.
محمد سامي: وصية
15 أكتوبر 2023
إذا صار إلنا إشي تذكروا إنها من النهر إلى البحر ..
إبراهيم نصر الله: هزيمة مدوية
19 أكتوبر 2023
يبدو أن أميركا ستظل متفوقة على العالم بأمرين:
همجيتها الرهيبة الداعمة للهمجيين؛
وذاكرتها الضعيفة، ففي كل مرة تنسى أن كل مكان غزته ودمرته هُزِمَتْ أيضاً فيه.
سماهر الخزندار: لا أُفرّط بنخلة
19 أكتوبر 2023
أجلس في البيت الذي نزحنا إليه، بجانب نافذة تطل عليها نخلة متوسطة الطول، كلما شعرت بالتوتر أنظر لها وأحاول أن أركز مع حركة أغصانها مع الريح الخفيفة. اليوم اكتشفت أنني كلما سمعت صوت القصف، أركض لأطمئن عليها.
لا أُفرّط بنخلة طبطبت على روحي، ويُفرّط العالم بشعب كامل يُذبح على الهواء مباشرة، كيف هُنّا عليكم؟!
يوسف القدرة: مشهد قيامي
18 أكتوبر 2023
طفل مُصاب: — بأضلني عايش؟
الدكتور: — آه، بتضلّك عايش!
أحلام بشارات: كالأشجار
18 أكتوبر 2023
لو كنا غابة، لما قطعوا منا 300 شجرة مرة واحدة.
ميثم راضي: قطعة فحم
17 أكتوبر 2023
قطعة الفحم الصغيرة هذه: كانت ولداً من فلسطين.
خذها يا إلهي.
إنها تكفي لتكتب بها على باب جنتك بكل لغات العالم: ممنوع الدخول.
شفيق قروط: صورة مصغّرة لمجزرة مستشفى الأهلي المعمداني
17 أكتوبر 2023
كان هناك أمل صغير، هذا ما أخبرني به الطبيب عن طفلي، ذهبتُ وعدت، لم أجد لا طفلي ولا الطبيب ولا المستشفى ..
رائد وحش: نكبةٌ أخرى؟
15 أكتوبر 2023
في ليلةٍ من عام 2023، ذهبنا للنوم؛ واستيقظنا في عام 1948 (أحد سكان غزة)
نور بلوشة: ماتت الحارة
17 أكتوبر 2023
اتصل بي أحد أصدقائي وقال: — نور، راحوا كل صحابي، ماتت الحارة.
وصية هيا
مرحبا، أنا هيا. وسأكتب وصيتي الآن.
1. نقودي: 45 شيكلاً لماما و5 لزينة و5 لهاشم و5 لتيتا و5 لخالتو هبة و5 لخالتو مريم و5 لخالو عبود و5 لخالتو سارة.
2. ألعابي وجميع أغراضي: لصديقاتي زينة، ريما، منة، أمل أختي.
3. ملابسي: لبنات عمي، وإذا تبقى أي شيء فتبرعوا به.
4. أحذيتي: تبرعوا بها للفقراء والمساكين.. بعد غسلها طبعاً.
خالد جمعة: حقيبتك التي لن تراها
17 أكتوبر 2023
يا حبيبي، جهزت لك حقيبة المدرسة كاملة كما طلبت، سوداء بحمّالات زرقاء داكنة، ورسومات للبحر على مقدمتها، وفيها كل ما أشرت إليه فيما كنا نسير في الشارع الكبير، دفاتر ملونة، أقلام رصاص غامقة، وعلبة ألوان كبيرة، أعذرني إذا لم تكن من النوع الثمين، فلم تكفِ النقود التي كانت في جيبي إلا لهذا النوع من الألوان، اشتريت لك كذلك القميص الأحمر بالمربعات البيضاء، بجيبين على صدره، والحذاء الذي يصدر صوتاً خفيفاً حين تركض، ماذا أيضاً؟ نعم تذكرت، ودفعتُ قسطاً من ثمن الدراجة التي نمت باكياً ولم أتمكن من إحضارها لك، مأساتي يا حبيبي، يا قلب أمك المفقوء بالبكاء، أنني أنقذت كل هذا من صاروخ الطائرة، لكني لم أستطع أن أصل إليك، وسيعذبني حتى آخر عمري، أنني كنت قد أعددتها لك لأفاجئك بها قبل العيد بقليل، ليتني على الأقل أريتك إياها.
17 أكتوبر 2023
المراسل: وصول الناجية الوحيدة، لا أحد يعرف من هي، ولا هي تعرف من هي..
باسم سليمان: حياكة كفن
ستدخل الرصاصة
من خرم اﻹبرة
يوماً ما؛ هكذا
قال حائك اﻷكفان.
كريم أبو الروس: لسنا أرقاماً
16 أكتوبر 2023
كابن حي لهذه العائلة سأكتب كي لا تكون عائلتي أرقاماً. أعدكِ يا هديل يا حبيبتي أنكِ لن تكوني رقماً في شريط الأخبار.
هذه أختي هديل. أختي الكبيرة، هي من ربتني وعلمتني، هي من كانت توصلني إلى المدرسة وترجعني إلى البيت، هي من كانت ترتب لي الألعاب حين كنت صغيراً وتدافع عني في مناوشات الطفولة، هي من كانت تدافع عني أمام غضب أمي من مشاكستي، أختي هديل التي علمتني كيف أحب المرأة وأحترمها وأقدس حريتها وحقوقها، أختي هديل من عرفتني على الكتاب والقراءة ومن كانت تشتري لي روايات حين كان مصروفي في المدرسة قليلاً. هذه أختي هديل العبقرية المتفوقة التي تعرفها كل وزارة التربية والتعليم، يعرفونها من علاماتها العالية وخططها التعليمية المميزة. هذه أختي هديل التي يرثيها طلابها الآن على صفحات التواصل الاجتماعي ويكتبون ذكرياتهم معها كمعلمة لمادة الفيزياء. هذه أختي هديل التي حصلت على مرتبة أولى في امتحان التوظيف الوطني وحصلت على وظيفة معلمة في ذات الوقت الذي كانت تربي وترعى فيه بناتها الملائكة وترعى بيتها وزوجها. هذه أختي هديل التي ربما يعرفها كثيرون من الطلاب الذين لم يكونوا قادرين على دفع رسوم الدروس الخصوصية ونجحوا وعبروا إلى الجامعة. هذه هديل التي خلصتني من مشاكل كثيرة في حياتي، في غربتي، في مشواري التعليمي، في فرحتي، في حزني. هديل التي كانت تقيم ذوقي في الملابس والعطور، هذه هديل يا عالم قتلتها إسرائيل بوحشية وأطفالها في حضنها في غرفة واحدة، آمنة في بيتها خائفة من الحرب والموت. هديل على عكس كل ما يقوله الناس عن غزة كانت خائفة. حبيبتي يا هديل. حبيبتي كثير انتي.
عمر زيادة: توابيت وحكايات
16 أكتوبر 2023
التوابيتُ ملجأُ الأطفالِ
والحكاياتُ حفنةٌ من رمالِ.
سلمى الريس: بيتٌ كانَ ولم يعد
16 أكتوبر 2023
اشترى أبي وعمي قطعتي أرض متقاربتين في حي الرمال الذي كان ما زال ناشئاً بداية الخمسينيات وأتم كل منهما بناء بيته. كان بيت عمي يمتاز بموقعه المشرف على شوارع ثلاثة، وما عدا ذلك كان مطابقاً لبيتنا: الشرفات المستديرة الواسعة المحيطة بالبيت، الممر الطويل المحاط بغرف النوم، صالة واسعة لاستقبال الضيوف وغرفة أخرى أيضاً لاستقبال الضيوف (عند الحاجة للفصل بين الرجال والنساء)، وغرفة سفرة كبيرة. مطبخ وحمامين في نهاية الممر. كان البيت مبلطاً بالبلاط اليافاوي الملون المزخرف، سقفه عال، نوافذه مربّعة عليها حماية من الحديد ذي الانحناءات الملتوية الجميلة وأباجورات من الخشب ثم أبواب صغيرة من الزجاج المصنفر.
كان عمي مولعاً بالبستنة وكانت حديقة منزله أشبه ما يكون بمنتزه صغير. ممرات ودوائر من الورد، أشجار خضراء لامعة مقصوصة ومعتنى بها، وعريشة عنب تتدلى عناقيدها الذهبية مثل الثريات.
وكما هي العادة في غزة، بنى عمي لأبنائه طابقين فوق منزله، استقر فيهما اثنان من أبنائه بعد زواجهما.
شهدت في بيت عمي «طلعات عريس» ثلاثة من أبنائه وحفلات المباركة، وحفلات خطوبة بناته الثلاث ثم حفلات تسليمهن لأزواجهن، شهد البيت ولائم كثيرة وضحكات كثيرة وعزّاً كثيراً وخطوات صغيرة وكبيرة لأبناء ولأحفاد ولدوا ونشؤوا به.
ما أريد أن أقوله هو أن بيت عمي هو البيت الذي على اليمين في هذه الصورة.
سْلَافوي جيجيك: كمامة معاداة السامية
مُعادَاة السّاميّة مِن أَشدّ الأخْطار الّتِي تُهدِّد حُرّية التّفْكير فِي أيِّ مَكَان، لِأنّهَا لَا تَسمَح لِأَحد بِانْتقاد إِسْرائيل بِشدّة من دُون اتِّهامه بِمُعاداة السّاميّة. (من محاضرة خلال «معرض فرانكفورت» في 18 أكتوبر 2023، ترجمة: عبد النور زيّاني).
عميرة هاس: نزاهة فكرية
لماذا يقتلنا الفلسطينيون؟
لن يشرع الشباب الفلسطينيون في قتل اليهود لأنهم يهود، وإنما لأننا محتلوهم، جلادوهم، سجانوهم، سارقو أرضهم ومائهم، مهدِّمو بيوتهم، نحن من هجَّرناهم، وأقفلنا بوجههم كل أفق. الشباب الفلسطينيون، منتقمون وفاقدون لكل أمل، مستعدون لوهب حياتهم ولأن يتسببوا لعوائلهم في أنكى الآلام، لأن العدو الذي يواجهونه يثبت لهم في كل يوم أن شَرَّهُ بلا حدود. (كاتبة وصحافية «إسرائيلية»، كانت مراسلة في قطاع غزة، جمعت جل شهاداتها في كتاب: «شُرْبُ البحر في غزة» ترجمة: ر.و.).
المصدر : الاخبار