متفرقات

بين هذا الحكم وذاك


الوزير السابق جوزف الهاشم

“تحبَلُ خارج لبنان وتضَعُ مولودَها في لبنان ..” هذا ما قاله الرئيس صائب سلام خلال الحرب التي داَرَتْ عندنا سنة 1975 .
وهكذا كان شأنُ لبنان عبْـر الزمان ، ولا مـرّة كان عندنا حبَلٌ بلا دنَس .
بعد حرب 1975 ، كما مِـنْ قبلها ، رحنا نبني ما هدمـوه وما هدمناه ، ثمَّ نتوسّل الأيدي البيضاء لإعادةِ البناء ، نقبّلُ اليـد وندعو عليها بالكسر .
كلُّ ما نبنيـهِ بعد الحرب ندمّره بالتقسيط يوماً بعد يـوم ، ندمّره بالنزاع السياسي ، والنزاع المذهبي ، والنزاع الوطني حـول هويّـة لبنان وسيادة لبنان ، وها نحنُ مـرّة جديدة نقـفُ على الأطلال ، نتباكى ونتبارز حول الركام وميادين الحطام.
وإنْ شئتُ وصـفَ هذا المشهد بما هو أقرب إلى الإستيعاب ، أرى من المفيد اللّجوء إلى لغـة الشعر ، لأنّ الشعر المقفّـى يتميَّـز بالوزن ، والكثيرون عندنا قد فقدوا أوزانهم ، ونسأل :
متى يبلغ البنيانُ يوماً تمَامَهُ إذا كنتَ تبنيـهِ وغيرُكَ يهدمُ .
الأمبراطورية الرومانية الطويلة العمر في التاريخ ، إنهارَتْ خلال أيام واستغْرقتْ ألف عام إعادةُ بنائها ، ويُجمـعُ المؤرّخون بأنَّ سبب سقوط الأمبراطورية الرومانية يعود إلى : فساد المؤسسات الدستورية والقضائية والإقتصادية والعسكرية، وسيطرة الحاشية وأقارب البلاط .
عهد الرئيس ميشال عـون ، كان أشبهَ بالأمبراطورية الصغرى ، حين استطاع أنْ يحقّق إرساء تحالف مسيحي ـ شيعي مع حزب الله ، وتحالف مسيحي ـ مسيحي مع القوات اللبنانية ، وتحالف مسيحي ـ سنيّ مع تيار المستقبل ، وتفاهم مسيحي مع القيادات الدرزية ، إلاّ أنّ هذه التحالفات إنقلبت إلى خصومات ، فكان هناك مَـنْ يتحالفون حيناً مع الرحمان ، وحيناً آخـر مع الشيطان ، وكان ما كان من فساد في المؤسسات الدستورية والقضائية والإدارية والمالية والإقتصادية ، وكان ما كان من سيطرةٍ على الحكم من الخوارج وأهل الحاشية .
وهي الأسباب نفسها التي أدّت إلى انهيار الأمبراطورية الرومانية ، لأنها لم تسارع إلى انتشال نفسها من الأسباب التي أدّتْ إلى انهيارها .
هذا يعني ، أنّ بناء الأمبراطوريات كبيرةً كانت أو صغيرة لا يتوقّف حصراً على توافـر الإمكانات ، بقدر ما يحتاج إلى تشابك سواعد البنائين في مواجهة الهدّامين ، بل أن يكون “الحجرُ الذي نبـذَه البنّاؤون رأساً للزاوية”(1) ، أي الحجر الذي يربُط حائطين معاً .
هذا هو المغذى المطروح أمام الرئيس جوزف عون كعِبـرةٍ من الماضي .
بتعبير آخـر : بقدر ما يتحلّى رئيس الجمهورية بالحكمة والنزاهة والتجـرّد وسداد الرأي واستبعاد الحاشية ، بقدر ما يكون رئيساً حكَماً ، والمثال الأعلى الذي يقتدي بـه الصالحون ويخافـه الفاسدون ، فيتألّب حوله الشعب ويحقّـق الإصلاح بقوة القانون وعقاب المحاسبة .
هناك من يرى أن الرئيس جوزف عون جديـرٌ بأنْ يتشبّه بالحكم الشهابي.
الحكم الشهابي جسَّدَهُ الأمير بشير الثاني بالإصلاح الإداري والتسامح الديني ، “فكان مسيحياً بالمعمودية ، مسلماً بالزواج، درزياً بالتعامل”(2) ، والرئيس الأمير فؤاد شهاب استكمله بالإصلاح الإداري والترفّـع عن التطرّف الديني ، حتى قال السفير “جوني عبده” : “إنّ هناك مَـنْ كان ينصح الرئيس شهاب بأنْ يتناول القربان في قداس جامع على مرأى من الناس ليتأكّدوا أنـه ماروني” ، ومارونية فؤاد شهاب المسيحية ـ الإسلامية هي التي أمّنت حقوق المسيحيين من ضمن حقوق جميع اللبنانيين .
يقول الرئيس جوزف عون : “نحن في مرحلة جديدة ، عانيَنْـا الكثير من الويل ولا عودة إلى الماضي”، فهل يكسب الرئيس جوزف عون الرهان ، حتى لا يعود مستقبل لبنان يخجل بمن سبق من ماضيه …؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ مزمور : 118 ــ 22 .
2 ــ تاريخ لبنان ــ فيليب حتي : ص : 506 .

عن جريدة الجمهورية : 25/4/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى