عصرُ الصواريخ
بقلم : الوزير السابق جوزف الهاشم
كلُّ عصرٍ في التاريخ كان يُسمّى باسم الحَـدثِ الذي يطغى عليه …
من هنا : كان عصـرُ ما قبل التاريخ ، وكان العصر الحجري ، وعصر الإنحطاط ، وعصرُ النهضة الأوروبي مع سقوط القسطنطينية ، وكان عصر التنوير في فرنسا وعصر النهضة العربي عهد أمبراطورية بني عثمان .
وأبـرزُ إسمٍ ينطبق على هذا العصر ، هو عصرُ الصواريخ .
من حـرب الصواريخ في روسيا وأوكرانيا وحرب الخليج واليمن والسودان وإسرائيل وإيران وسائر الساحات ، إلى حرب بحـر الـدم الأحمر في غـزّة ، وصواريخ البحر الأحمر على المدمّـرة إيزنهاور ، وما تطاير من شظايا على الرئيس إيزنهاور في قبـره …
هكذا ، ومع انبلاج كـلِّ فجـرٍ واحتجاب كـلِّ شمسٍ تطالعُكَ عربـدةُ الصواريخ ، وهي تتراقصُ بينَ الأرض والجـوّ : في الجـوّ بـروقٌ ورعود ، وعلى الأرض محارق وبارود ، والعالم ينام على قعقعـةِ القذائف ويفتح عينَيْـهِ على بُـرَكٍِ من الـدم .
ويتعاظم السؤال : مِـنْ أينَ وكيف تتدفَّقُ هذه الحِمَـمُ النارية كالينابيع ، وتنهمر كالسيول …؟
مـنْ أيـنَ مصانعها ومواردها وذخائرها وتمويلها …؟ وكيف يُنْفَـقُ على إنتاج نـارِ الحروب ما يفوق على إنتاج حياة الشعوب …؟
ليس شرطاً أن يكون السلاحُ آلـةً للموت ، هناك عالَـمٌ حضاري يستخدم السلاح مـادةً للحياة : في دولة السويد صُـنِعَ خرطوش للزرع ، كلُّ واحدةٍ من الخرطوش تضـمّ نوعـاً من الحبوب لإحياءِ المواسم الزراعية ..
هناك عالَـمٌ يجعل المواسمَ بواسم ، وعالَـمٌ يجعل المواسم مآتـم …
بين عصرٍ متخلّفٍ يحافظ على حياة الإنسان ، وعصـر متقدّم يحلّـل الإنسان للموت ، يصبح التخلّف مطلباً حياتياً ، المحافظة على الحياة تبقى الأفضلية المطلقة ، كما يقول مثلٌ إيطالي .
سلاح العصر الحجري الذي يُصنع من الأحجار المشطوبة ، أو سلاح القوس والنشّاب ، هذا يؤدي إلى قتل امـريء واحـدٍ في غابـة …
والسلاح العصري الذي يـدّكُ الشامخات ويُبيـدُ الجماعات ، هذا يعني قتـلَ شعبٍ آمـنٍ وجريمةً لا تُغتَفَـر .
وبهذا ، يقول الفنان الإسباني “بابلو بيكاسو” : عبقريةُ أينشتاين تقـود إلى هيروشيما .
بعد الحرب العالمية الأولى كان مؤتمر الصلح في باريس وعلى رأسه أرباب الـدول الكبرى : الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا ، انبثقَتْ منـه معاهدة “فرساي” التي اعتَبرتْ نزْعَ السلاح هو الوسيلة الفضلى لتحقيق السلام العالمي، وأُنشئَتْ عصبـةُ الأمـم لحـلّ المشكلات الدولية بغير لغـةِ الحرب ، ومَنْـحِ الشعوب المظلومة والصغيرة حقوقها المشروعة في تقرير مصيرها …
وبالرغم من هذه البدائع الإنسانية والتعهُّدات ، كانت مجزرة هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية ، وكان أرباب مؤتمر الصلح في باريس هم الذين يجعلون من الحروب تجـارةً للملوك .
وإلاّ ، فكيف تحوّلَتْ عصبـة الأمـم إلى عصابات دولية حيال المعنى الحقوقي والشرعي والإنساني لقضية فلسطين …؟
أخطـرُ ما يواجـهُ هذا العصر ، أن تظـلّ اللغـةُ فيما بين الـدول الكبرى وبينها وبين الدول الصغرى ، شبيهـةً بلغـة الرئيس الأميركي جورج واشنطن حين خاطب الإنكليز بالقول : “إنّ ثروة الأمبراطورية البريطانية لا تكفي ثمنـاً لبلادي ، حاربوا .. إمّـا أن تفنونا وإمّـا أنْ نفنيكم …”
وإذْ ذاك ، لا يعود السمك الكبير يبتلعُ السمكَ الصغير ، بل يصبحَ كـلُّ السمك ضحيَّـة البحور الهائجة .
عن جريدة الجمهورية
بتاريخ : 28/6/2024