سمير جعجع وحدوي و«أنتي فيديرالية»!
في مقابلته مع تلفزيون المرّ، أخيراً، سئل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع: لماذا لا تبادر إلى المطالبة بالفيدرالية والدفاع عنها «لنخلص بقا» من الهيمنة الإيرانية في لبنان؟ فأجاب حرفياً: «الخلاص من الهيمنة الإيرانية والفيدرالية أمران مختلفان تماماً. نحن في القوات لا نخاف من طرح شيء، لكن الأمور مرهونة بأوقاتها.
الفيدرالية تغيير جذري جداً، والتغيير الجذري يحتاج في التركيبة اللبنانية إلى تفاهم الحد الأدنى مع سائر الأفرقاء».
وتابع: «إذا كان المطلوب المطالبة للمطالبة بأمور لا يمكن تحقيقها، فيمكن لأي كان أن يفعل ذلك، أما إذا كنت تريد تحقيق هدفك، فيتطلّب ذلك تحضيراً جدياً وعملاً ونقاشاً مع الآخرين للوصول إلى الهدف. وعليه، يفترض أن تحدد هدفك: طرح الموضوع شيء، والوصول إلى الهدف شيء آخر».
هذا المقطع الذي لا تتجاوز مدته دقيقة ونصف دقيقة يستحق المشاهدة أو القراءة مراراً، لأنّ قائله ليس رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط أو رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون أو رئيس حزب الكتائب السابق كريم بقرادوني أو الراحل جورج سعادة، وإنما الرجل الذي بنى كلّ مجده السياسي والانتخابي على طرح مواضيع لا يمكن تحقيقها، ورفض منطق التفاهم، وأقنع نفسه والآخرين بأن الفيدرالية والتقسيم و«العيش لوحدنا» أمور ممكنة.
يمكن التوقف في «دقيقة جعجع» عند ثلاثة أمور رئيسية:
أولها، إعلانه، بعد نحو عقدين من التصعيد والتحريض والحث على التصادم وانتقاد كل أشكال التفاهمات، أن التغيير الجذري في التركيبة اللبنانية يحتاج إلى «تفاهم الحد الأدنى مع سائر الأفرقاء»: التفاهم إذاً، لا التقاتل والعراضات وصور «الحكيم» بالبزة العسكرية لغسل عقول طلاب المدارس وحشوها بالأوهام. بعد سنوات طويلة من حفر الحفر السياسية، في الداخل والخارج، لحلفائه وخصومه من الرئيس عون إلى الرئيس سعد الحريري، لا لشيء إلا لانتقالهم من التصادم مع الآخر إلى التواصل والتفاهم، ها هو رئيس حزب القوات اللبنانية يقول إن التفاهمات هي الحل، لا الثورات وقطع الطرقات وأسطح البنايات في فرن الشباك والطيونة وعنتريات شارل جبور وبيار بو عاصي وغيرهما.
ثانيها، ربطه المطالبة بهذا العنوان أو غيره بما يمكن تحقيقه فعلاً. إذ يقول إنه لا يطالب بالفيدرالية لأنه لا يطالب، بكل بساطة، بما لا يمكن تحقيقه، رغم أن غالبية «ما يوحي» به جعجع للرأي العام أنه يطالب بما لا يمكن تحقيقه. وهذه عبارة توجب نقاشاً موضوعياً مفصلاً سواء مع القوات اللبنانية لتبيان (أو فضح) حقيقة ما تطالب به، ومع الرأي العام الذي يتوهّم، غالباً، بأن القوات تطالب بقضايا كثيرة، يتبين عند التدقيق أنها لا تطالب بها.
وخلافاً لما يظنّه الرأي العام، ها هو جعجع يقول، شخصياً، إنه ضد الفيدرالية. ورغم مواقف القوات من النزوح السوري، لا تزال بالنسبة إلى الرأي العام «ضد السوريين». تماماً كما توحي لهذا الرأي العام بالمبدئية والثبات السياسي رغم تغييرها لمواقفها سواء بشأن التشريع في ظل الشغور الرئاسي أو غيره. وهو ما يسمح للقوات بأن تربح على المستويين: الشعبي نتيجة ظهورها الدائم كقوة مواجهة وثبات وصمود (وهي ليست كذلك)، بدعم من خصومها الذين يصرون على تحميلها ما لم تعد تحمله؛ وعلى المستوى السياسي نتيجة تطريزها للتسويات.
وفي سياق حديث جعجع عن الأهداف الموضوعية التي يمكن تحقيقها، لا بدّ من سؤال القوات عن الأهداف الواقعية المطلوبة التي وضعتها لنفسها أو للناخبين وحققتها طوال العقدين الماضيين: وضع العونيون مثلاً تصحيح التمثيل السياسي كهدف ونجحوا خلال عقدين في تحقيقه، فيما فشلوا في تحقيق الإصلاح الذي وضعوه هدفاً أيضاً. لكن، في المقابل، ماذا كانت أهداف القوات منذ عام 2005 وماذا حققت أو لم تحقق منها؟
ثالثها، نعى جعجع في دقيقة ونصف دقيقة (بعد أربعة أشهر على الحرب في غزة) الأوهام والأحلام المرتبطة بالفيدرالية والتقسيم التي كانت إسرائيل تمثل عامودها الفقريّ في المنطقة. وهو لم يكن ليجزم، بهذه الثقة، بعدم جدوى الحديث بالفيدرالية وما يشبهها لو لم يكن واثقاً من أنّ المؤيّدين لهذه الطروحات في الإدارة الأميركية لم ينجحوا في إيجاد خارطة طريق من شأنها إيصال هذه الأفكار إلى حيز التطبيق، فيما الأوروبي – ممثلاً بالفرنسيّ – لم يتعامل مع هذه الطموحات بجدية.
وعليه، إذا كان جعجع يقول إن الفيدرالية غير واردة اليوم أو قابلة للتحقيق من دون أن يخشى على شعبيته، فلماذا يخشى الأفرقاء الآخرون على شعبيتهم من مصارحة الرأي العام بهذه الحقيقة الثابتة بدل إيهامهم بعكس ذلك؟
هل هذا ما يؤمن به رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع فعلاً أم أنها «زلّة» لسان، أو موقف غير محسوب، أو موقف عقلاني – لرجل لم يتميز يوماً بالعقلانية – من التحولات الإقليمية التي خلصت إلى تبني مبدأ التفاهم، سواء بين إيران والسعودية أو بين إيران والولايات المتحدة أو بين فرنسا وحزب الله؟
هل هي «زلة» في مسيرة جعجع المقاتل المتنقل بين جبهة وهمية وأخرى، أم محاولة لإقناع السعوديين أن في وسعه أن يكون رجل القتال حين تحتاج المرحلة إلى مقاتلين، ورجل التفاهمات حين تنضج التسويات؟
لعل العبارة تحمل هنا أكثر مما تحتمل، لكنها ليست بالعبارة العادية في مسيرة جعجع الحافلة بتفخيخ التفاهمات والانقلاب عليها، وتخوين كل من يمضي صوب التفاهم.
المصدر: الاخبار