الطوفان الأقصى اللبناني
بقلم : الوزير السابق جوزف الهاشم
الطوفان الأقصى الذي حـلّ بلبنان على مدى بعضِ العقود من الزمان ، سببُـهُ الأهمّ هو أنَّ الجيل السياسي الذي تولّـى الحكم هو جيلٌ أُمّـي ، لم يقرأ باسم ربِّـهِ الذي خلَق ، ولم يقرأ باسم الشعب الذي خلَقَـهُ ، وفـوق ذلك كان يمارس الأحكام وفق نظريّـة : من بعدي الطوفان .
منذ عقودٍ ، لم يكن في “منظومة” أهـل السياسة والحكم أديبٌ واحدٌ ، أو شاعرٌ واحـدٌ ، أو عالِـمٌ واحد ، ولم يكنْ لأيٍّ منهم مؤلَّفٌ واحدٌ أوْ كتاب .
المثقفون ، يستشرفون المستقبل ، يقتبسون الخبرةَ من مطالعاتِهمْ كتُبَ العظماء ، ومسيرةَ الممالك وسيرةَ الملوك والرؤساء ، فيأخذون منها العِبَـر ، لينبِّهوا الحكَّام إلى مخاطر الأيام .
“تنبَّـهوا ، واستفيقوا أيها العرَبُ” .
هو مطلعُ قصيدة للشاعر اللبناني ابراهيم اليازجي ، سنة 1868 ، منبّهاً بها إلى مغبّـة الطغيان العثماني ، ومنذ ذلك التاريخ ، ولأنّ العرب لا يقرأون ، لم يتنبّهوا ، ولم يستفيقوا …
“لكم لبنانُكم ولـي لبناني” .
مقالٌ من كتاب “البدائع والطرائف” كتبـه جبران خليل جبران سنة 1923 ، ومنذ جبران الأول حتى جبران الثاني ، لا يزال في لبنان من يقول : لي لبناني ولكم لبنانكم .
وحين كان لبنان ينشر الحضارة والتمدّن ويتغنّى بالمجـد ، كان لبنان عند الشاعر إيليا أبو ماضي : “وطـنَ النجوم” .
وحين تخلّف لبنان وتحكّمت فيه أميّـةُ الجهل : أصبح وطـنَ “الكهرباء” ..
وحين سقط لبنان في تجربة الحرب سنة 1975 قالت شاعرة جبل عامل : “زهـرة الحـرّ” :
لنا وطـنٌ ذبَحْناهُ وأحْرقْنا بقاياهُ
ولمْ يسلَمْ بهِ شيءٌ سوى ما قدَّر اللهُ
فهيَّا ندفنِ القتلى أمامَ بيوتِنا الثكْلى
وندفن في الترابِ المستباح الحقَّ والعدلا .
ولأنّ لبنان اليوم ليس لبنان الحـرّ يتخبّط في غياهب الغباء والأهواء ، فإننا نخشى أنْ نسقط في تجربـةِ حـربٍ أهليّةٍ أخرى .
بين عظَمةِ الثقافة ، وخساسة السياسة فوارقُ وتعارض ، وإنّ ألـدَّ أعـداء أهلِ الحكم الأغبياء هـمُ المثقفون … الثقافةُ عندهم جرمٌ يعاقب عليه القانون .
لبنان ، عند إيليا أبو ماضي وزهرة جبل عامل وعبقري جبل بشري ، هو وطـنُ النجوم والإشعاع الحضاري ، هو لبنانُنا ولبنانُكُمْ ، لا ينفصم بفعل مذهبيّـةِ الإنتماءات وازدواجية الولاءات ، يستطيع بالفكر النيّـر أن يحـوّل التناقضات إلى طاقة بنّاءة تتكامل في حركة إيجابية لتأمين الإستقرار والفرص الفضلى للحياة .
ولبنان في الجهل العقلي والغيبوبة الوطنية قد يتحوّل إلى نصفين : لي لبناني ولكمْ لبنانكم : نصفٍ مقابل نصف آخر ، غيـرِ مندمجَيْنِ في كيانيّـةٍ واحدة ، وتتحول المفارقة إلى مواجهة بين مضادَّينِ وطنياً ، متعارضَْينِ سياسياً ، متنافريْنِ مذهبيّاً .
أنظروا إلى العالم الأممي واحكموا … حدّدوا السبب بين عالـمٍ يتطور فكرياً وحضارياً ويعيش في استقرار وازدهار ، وعالمٍ متخلّفٍ تتفجّر فيه طاقات الشعوب الحيويّة إلى تناقضات محمومـةٍ محكومةٍ بالرعب الظاهر والرعب المكبوت .
في السنوات الأخيرة من حياة جبران خليل جبران تعرّض لضغط كبير ليعود إلى لبنان ويكون فيه الزعيم الوطني فقال : “إنْ ذهبتُ إلى لبنان وكتاب النبيّ في يـدي هل نعيش على ضـوء هذا الكتاب(1)”…؟
نعم … إن إنقاذ لبنان بات يحتاج إلى نبـيّ … أيْ إلى عقل .
هو “المعرّي” صاحب “الفلسفة العلائية” الذي يقول : “إنّ كـلَّ عقلٍ نبـيّ” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كتاب برباره يونغ – هذا الرجل من لبنان ص. 165 .
عن جريدة الجمهورية
بتاريخ : 2/2/2024