بوادر أزمة بين بيروت وطهران؟

ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
في خطوة تثير أكثر من علامة استفهام، أوقفت السلطات اللبنانية تواصلها مع الجانب الإيراني بشأن استئناف الرحلات الجوية التجارية المباشرة بين بيروت وطهران عبر شركات النقل الجوي الإيرانية، ما فُهم على أنه قرار لبناني نهائي بوقف الرحلات. في المقابل، تعاملت إيران بالمثل، بل ذهبت أبعد من ذلك، من خلال تبنّي موقف متشدد حيال مجرد النقاش في أصل الفكرة اللبنانية القائمة على استبدال الرحلات الإيرانية بأخرى لبنانية عبر شركة طيران الشرق الأوسط. وقد فُهم أن طهران بدأت بالفعل في بناء سياساتها مع لبنان على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، ما قد يُنذر بأزمة أشد وطأة بين البلدين، في وقتٍ بات فيه “افتعال الأزمات” مع الدول الصديقة شعارًا لبنانيًا يُعتمد بشكلٍ عشوائي.
الرد الإيراني لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان كاشفًا عن عمق الخلل في الأداء الرسمي اللبناني، الذي يزداد ارتهانًا لضغوط الخارج، ولا سيما تلك الصادرة من واشنطن.
مصادر مطلعة على موقف طهران تشير بوضوح إلى أن إيران ترفض الدخول في أيّ ترتيبات بديلة، كاستخدام دولة ثالثة لاستمرار الخط الجوي مع بيروت، والذي يتيح تنقل الركاب بين البلدين، أو حتى السماح لشركة “طيران الشرق الأوسط” بتسيير رحلات إلى طهران. علمًا أن الجهات المعنية اللبنانية سبق أن أرسلت طلبًا رسميًا بهذا الخصوص إلى طهران، غير أن الأخيرة وضعته في الأدراج ورفضت منحه الإذن، وتعاملت معه بكثير من الحساسية، في ما اعتُبر ردًا على القرار اللبناني بمنع الرحلات. وبحسب المصادر، فإن رفض طهران لأيّ من هذه الخيارات يعود إلى رفضها التعامل بمنطق يُشعر بالإهانة، لا الشراكة أو التعامل الندي.
أما الأخطر في المشهد، فهو أن القرار اللبناني لم يُتخذ ضمن سياق سيادي داخلي، بل جرى الترويج له في الكواليس كاستجابة “اضطرارية” لشروط خارجية، لا سيما أميركية. فقد فرض الأميركيون “لائحة تصنيفية” وعمّموا تنفيذها على الأجهزة الأمنية في المطار، تتضمن إجراءات أمنية دقيقة جداً على الرحلات القادمة من دول محددة، تشمل تفتيشًا مشددًا للركاب القادمين، وخصوصًا اللبنانيين منهم، بغض النظر عن صفاتهم، سواء كانوا مسؤولين رسميين أم مرافقين لهم.
رئيس الحكومة نواف سلام، ورغم تأكيده الحرص على العلاقة مع إيران وعدم تعكير صفوها، تُوجَّه إليه أصابع الاتهام بالوقوف خلف مسؤولية التعميم الصادر إلى وزارة الأشغال بعدم السماح باستئناف الرحلات الإيرانية إلى بيروت. ومن جهة أخرى، يظهر سلام في موقف ملتبس: فهو يطالب الإيرانيين بتفهّم “الظروف وخصوصية الموقف اللبناني”، خاصة في ظل ما يسميه “الخشية من التهديدات الإسرائيلية باستهداف المطار”، بينما لا يُبدي أيّ تفهّم للاعتراض الواسع من شريحة من اللبنانيين على هذه السلوكيات السياسية، التي تُصنّفها بأنها استنسابية وتمييزية، لا سيما عندما تُمارس على دولة يُفترض أنها “صديقة”، بحسب أدبيات الدبلوماسية اللبنانية. فهل المطلوب اليوم أن نضبط سياستنا الخارجية وفق مخاوف العدو؟ وهل يُعقل أن تُدار علاقات لبنان على أساس إشارات تصدر من تل أبيب وتفسيرات تُقدمها واشنطن؟ أين موقع القرار اللبناني، وأين تنتهي حدود التدخل الخارجي لتبدأ السيادة الوطنية؟
تزداد هذه التساؤلات إلحاحًا مع توارد أنباء عن عمليات إقصاء ممنهجة و”تطهير وظيفي” لموظفين من طائفة معينة داخل المطار، واستبدالهم بآخرين عبر شركات متعاقدة تقدم خدمات متعددة الوظائف، إلى جانب رفض فتح الأبواب أمام توظيف آخرين، ما يعمّق الشعور بالغبن الطائفي، ويحوّل المطار — الذي يُفترض أن يكون واجهة وطنية جامعة — إلى مساحة صراع مُقنّع.
وبينما تحاول مرجعية سياسية كبرى احتواء الأزمة من خلال تكليف شخصية أمنية بفتح قنوات تواصل مع طهران، قد تصل إلى حد زيارة العاصمة الإيرانية، يبقى السؤال الأهم: هل المطلوب من إيران وحدها أن “تتفهم”؟ أم أن على الدولة اللبنانية أولًا أن تستعيد قدرتها على اتخاذ قرارات لا تحتاج إلى مباركة السفارات؟