متفرقات

سيادةٌ وشرفٌ … ودماء

الوزير السابق : جوزف الهاشم

بعدما هـزَمَ الجيشُ الإسباني الملك الفرنسي فرنسوا الأول في معركة “بافيا” الإيطالية وتـمَّ اقتياده أسيراً إلى “مدريد” كتبَ إلى أمّـهِ يقول : “سيدتي ، لقد ضاعَ كلُّ شيء إلاّ الشرف والحياة” .
في الحروب : الجيوش تقاتل والملك هو البطل ، والجنود يُقتلون كي يعيش الملك ، حتّى ولَـوْ هُـزِمَ الملك ووقَـعَ في الأسْرِ ذليلاً مكبّلاً بالأصفاد ، فالـذلُّ عندهُ شرف .
ما ينطبقُ على الملوك ، لا ينطبقُ على الشعوب : الشعوب عندما يضيع عندها كلُّ شيء ، فالشرفُ جـزءٌ من كل شيء ، والأرض المحروقة والمـدن المدمّـرة جـزءٌ من كل شيء ، والإبادة الجماعية والقتلُ والتشريد والجوع واستجداء القوت، هو الجـزء الأعظم والأعـزّ من كل شيء ، ومع هذا “الكلّ شيء” فلا سبيل للمفاخرة بالشرف .

الشعوب ضحيّة الملوك ، والملوكُ مِـن ْبعدِهمِ الطوفان …
“من بعدي الطوفان” : هو قـولٌ منسوبٌ إلى عشيقة الملك الفرنسي لويس الخامس عشر ، تَـرفعُ بـهِ معنوياته بعد انهزامه الساحق في حربـهِ مع فريدريك ملك بروسيا ، حتى أصبحتْ مقولة من بعدي الطوفان مثلاً يوصف بـه القادة الذين يحقِّقون أغراضهم ولو على جماجم الشعوب .
مع كلّ ما جناهُ “من بعدي الطوفان” في التاريخ الغابر والحاضر ، لا يزال هناك من يقول : “أنْ لا خيار إلاَّ بالحرب مهما كانت النتائج” وهذا نـوعٌ من الجنون الهتلري الذي دمَّـر المانيا ، حتى قيل : لو لـمْ ينتحر هتلر لكان تسبّب بتدمير العالم كلِّـه ، مع أن كلَّ مغامرات “فوهْرر” النازية كانت من أجل عظمة “الفوهرر” نفسه .
القول : بخيار الحرب شيء ، والدعوة إلى خيار الحرب مهما كانت النتائج شيء آخـر ، ومع هذا “الشيء الآخر” ، يكفي أن نُلقي نظـرةً دامعة على “قطاع غـزّة” حتى لا نسمّي غيره من قطاعات غرقت في بحور الـدم ومقابر الجثث الجماعية .
والمدهشُ في الأمر ، أنّ هناك مَـنْ يؤمنون بسلاح الحرب كأنّـه منزَّلٌ مع الوصايا العشر ، ومهما كان خطـرُهُ عليهم يظلّ آلـةً مقدسة يعبدونها وتستعبدهم كعابدِ النارِ يهواها وتُحْـرِقهُ .
قرار الحرب ، هو خيارٌ عقلاني وطني داخلي حصريُّ جامع ، يتحدّد وفقاً لمصلحة الوطن والشعب ، وانطلاقاً من معادلة مدروسة لظروف الحرب وأسبابها والحكم مسبقاً على نتائجها ، حتى لا تدفع أمّـةٌ بكاملها ثمـنَ عمـلٍ مجنون يقوم بـه رجـلٌ واحد .
يقول نابوليون : إن القائد الذي يخوض الحرب مع نسبةٍ لا تفوق الخمسين في المئة من احتمال النجاح ، فهذا نـوعٌ من الإنتحار .
لأننا لم نكن نملك قرار الحرب والسلم وتحديداً منذ 1969 ، أيْ منذ أنْ قرّرت الفصائل الفلسطينية أنْ تجتاح أرض الجنوب لتشنّ باسمنا الحرب على إسرائيل ، “مهما كانت النتائج” فكنّا مكرهين على اختيار أهون الشرَّيـن مخافة الوقوع في الحرب الأهلية ، لأن فريقاً من اللبنانيين كان يناصر الفلسطينيين ، فارتضينا اتفاق القاهرة على أنـه شـرٌ لا بـدّ منه ، حتى قذفت بنا الأحداث من موقع حريـة الإختيار إلى موقع حريّـة الإنتحار .
المشكلة ، ليست في اختيار الحرب ، بل في قـرار الحرب المفروض لنصرة الخارج ، أو استقواء بالخارج على الداخل .
نعم … إنّ الدفاع عن السيادة والأرض والعرض شرفٌ وطني عظيم …
ولكن ، عن أرضك أنتَ ، وسيادتك أنتَ ، وشرفك أنتَ ، وحين تقرره أنتَ، لا حين يقرره لك الآخرون ، هكذا ، كمثل الرسائل الصاروخية التي انطلقت من أرضنا منذ أيام ، وقد تنصّلت منها مقاومة حزب الله .
هذا ، لا يعني الرضوخ استسلاماً للإحتلال ، وللإحتلال الإسرائيلي تحديداً، بل هذا يعني ، أنْ يكون لنا وحدنا الخطاب الوطني الواحد في السلم ، والسلاح الوطني الواحد في الحرب ، لنكون كلّنا جميعاً موحدين حول الدولة دفاعاً عن لبنان وشرف لبنان ، فإذا انقسم الشرف الوطني اثنيـن ، فلا يشكّل شرَفينِ صغيرينِ بل يشكّل ذلاً كبيراً … وهيهات منّـا الـذلّة .

عن جريدة الجمهورية : 28/3/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى