متفرقات

ستبقى هذه الحرب ماثلة في مخيّلاتنا.. وستضيف نكسة إلى انتكاساتنا

كتب: د. عادل مشموشي

عام مضى على عملية طوفان الأقصى بحلول السابع من تشرين الأول، ذاك اليوم الذي لم يكن كسائر أيام عام 2023، إذ استفاق العالم على نبأ عمليَّة أمنيَّة – عسكريَّة غير مَسبوقةٍ من حيث الوسائلِ والأسلوب، بحيث تفوّقت فيها الشجاعةُ والذّكاء الطبيعي على أحدث الأسلحة والذكاء الإصطناعي، نفَّذَها مئاتٌ من مقاتلي القسام في وجه المحتل الإسرائيلي دفاعاً عن أرضهم، ونجحوا خلال ساعاتِ معدودات في أسر حوالي مائتي وخمسين أسيراً؛ بالطبع لم يؤسر جميعُهم أحياء، وقبل أن يُلملم الكيان الإسرائيلي جراحه ويُحصي خسائره البشريَّة التي مُني بها أعلن رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو الحَرب على مِحور المُمانعة بكلِّيَّته مُستنجداً بحلفائه الغربيين.
وبعد مرور سنة على هذه العمليَّة النوعيّة ثمة سؤال يطرح نفسه، وهو: هل كان يدري من خطَّط لها وحدَّد توقيت تنفيذها بأنه كان يُطلقُ شرارةَ حربٍ مفتوحة؟ وثمَّة تساؤلاتٌ أخرى تتمثل في ما إذا كانوا قد قدَّروا تبعاتِها؟ وهل بَنوا تقديراتهم على مُعطياتِ موثوقة، وقراءات صَحيحَة؟ هذا ما سنتطرق إليه في هذا المَقالِ من باب تقدير الموقف عسكريًّا وجيوسياسيًّا، بعد تشخيصٍ للوضع وتحليلٍ مُجرَّدٍ للمُعطيات وتقييمٍ موضوعي للمواقف الدوليَّة واستقراء منطقي لما سيحمله المُستقبل، علَّنا نستخلصُ العِبَر مما حصل ويحصل.

بادئ الأمر، لا بدَّ من الإنطلاق من مُسلَّمَةٍ تقوم على الإقرار بمشروعيَّة الدِّفاع عن النفس والوطن، وبالتالي من حق الشَّعب الفلسطيني الدِّفاع عن أرضه وعِرضه وشَرفه ضد المحتل في أي وقت ومكان وبأيَّةِ وسيلة، وأن يُسخِّرَ كل ما لديه من إمكانيَّاتٍ لعَدم تركهِ يشعر بالراحة على أرضه المُغتصبَة، وإلَّا اعتُبرَ مُتخلِّياً عن واجبه الوطني. ورغم ذلك تدعونا الموضوعيَّةُ للقول أن الجِهةَ التي قرَّرت هذه عمليَّة «طوفان الأقصى» لم تُحسن تَقدير العواقب، وبالتَّأكيد لست أعني هنا المنفذين الفلسطينيين التابعين لحماس التي أخرجتها إيران من عباءة منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة، وعملت على تدريب عناصرها ودعمها سياسيًّا وماليًّا وتسليحاً ولوجستيًّا، ويرى البعضُ أن اتِّخاذَ قرارٍ بهذه الأهميَّةِ ومحفوفٍ بهذا القدرِ من المَخاطِرِ لا بدَّ من أن يَصدُرَ عن أعلى المَراجع فيها.

ليس لعاقل إلَّا أن يتوقَّع ردَّات فعل غير عاديَّة تجاه عمليَّة استثنائيَّة موجعةٍ بحجم طوفان الأقصى، والتي يبدو أنها حقَّقت نتائجَ فاقت ما كان متوقَّعاً منها، وهذا ما دفعنا للقول بأن قرار السير بها جاء متسرِّعاً وغيرِ مَحسوبِ النتائج، وكادت العمليَّة أن تصيب الكيان الإسرائيلي مقتلاً لو أنها دعَّمت بتدخُّلاتٍ عسكريَّةٍ خارجيَّة، ولكانت تسبَّبت في ضعضعةِ جيش الكيان وشتَّتت جهوده وأربكت قادته العسكريين والسِّياسيين على حدٍّ سواء، ولدفعَت بالمُستوطنين إلى هجرةٍ مُعاكسةٍ حقيقيَّةٍ أي من الأراضي الفلسطينيَّةِ إلى حيث أتوا، ولو فعلوا ذلك لقلنا كان لهم شرف المحاولة.
ورُبَّ قائل يقول أن محور المُمانعةِ قد هيَّأ لهذه العمليَّةِ وللمَعركة المُتوقَّعة بحربٍ نفسِيَّةٍ استباقِيَّة، قامت على إطلاق شعار وحدة السَّاحات، والتَّهويلِ بتوازن الرعب، واقتراب نهاية الكيان الإسرائيلي، وأنه أنهى استعداداته البَشريَّة والتدريبيَّة واللوجستيَّة لمعركة تغيِّرُ المُعادلة القائمة، إلَّا أنه تبيَّن في ما بعد أن تحضيراته لم تكن على قدر الشِّعارات والتَّهديدات التي أطلقها ولا حتى المزاعم التي كان يوهم حلفائه بها، وإن استعد عسكريًّا فإنه بالتَّأكيد لم يكن مُحصَّناً مُخابراتيًّا؛ وربما يعزى ذلك لخطأ في المفاضلة ما بين إمكانيات المحور القتالية وقدرات العدو، ولجهله بما يحظى به العدو من دعم غربي غير محدود. بدوره العدو الإسرائيلي لم يكن بمنأى عن الأخطاء، إذ وقع أيضا في سوء تقدير قُدرات مُنظَّمة حماس بحيث كان غافلاً عما يحصلُ في أنفاقها وما تختزنه بداخلها من أسلحة وصواريخ ودراجات شراعيَّة وغيرها، ولتركيز جهوده على الاستعداد لحربٍ مفصليَّةٍ مع حزب الله، ورغم ذلك اتَّخذ العدو من طوفان الأقصى ذريعةً لإطلاق شرارة حربٍ واسعةِ النطاق من دون أسقف أو ضوابط جغرافيَّة، وها هو يسعى لتنفيذها على مراحل.
رغم الصَّدمة الإستخباراتيَّة التي مُني بها العدو بعمليَّة طوفان الأقصى تمكَّن رئيس وزرائه من تضليل القادة الغربيين وإقناعهم بأن كيانه يتعرَّض لحرب وجوديَّة تقودها إيران بمشاركةٍ كافَّةُ أذرعتها، الأمر الذي مكَّنه من استمالتهم إلى جانبه، ودفعَهم إلى مدهِ بالأسلحة المُتطوِّرة عبر جُسور بريَّة وجويَّة، هذا بالإضافةِ إلى توجيهِ أساطيل بحريَّة ضمَّت عدداً من حاملات الطائرات والغواصات النوويَّة والفرقاطات المدمرة إلى حوضي البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، ووضعوا مختلف قواعدهم في منطقة الشرق الأوسط بحالة استنفار وعلى جهوزيَّة للتدخُّل دفاعاً عن إسرائيل، وسارعوا في إطلاق التَّهديداتِ لكل من تُسول له نفسه التَّدخل عسكريًّا إلى جانب منظَّمة حماس.
فهم القادة الإيرانيون الرِّسالةَ وحجم التَّهديدات، فكانت ردَّة فعلهم الأولى التخلّي عن شعار وحدةِ السَّاحات ليقينهم أن ثورتهم مُستهدفة بالذات، وأن المحور الذي أنشأوه غير قادر على مواجَهة الحشودات الغربيَّة، لذا استعاضوا عن ذاك الشِّعار بشعار جبهات المُساندة، وأوعزوا إلى تنظيمات المِحور بمُشاغلَةِ العَدو كُلٌّ وفقَ امكاناته ولكن ضمن أسقفٍ متواضعة، تاركين لهم هامشاً محدوداً للمُناورة. وبناء على توجيهات القادة الإيرانيين تحرَّكت القوى العاملة تحت المظلَّةِ الإيرانيَّة وبدأت بمناوشتها للعدو وكانت الباكورة على الجبهة اللبنانيَّة وسرعان ما تبعتها باقي الجبهات. واستثنت إيران ذاتها بعلَّةِ أن ضروراتِ المواجهة تَستدعي بقائها بعيدةً عن ساحَات الحَرب لتبقى قادرةً على توفير الدَّعم لقوى المحور، وأوكلت مهام الدعم والتَّنسيقِ بين الجبهات لقيادة فيلق القدس التَّابع لحرثها الثوري، الذي يأتمر مُباشَرَةً بتعليمات المرشِد الأعلى.
سُرَّ قادة العدو الإسرائيلي بعُزوف المِحور عن شِعار وحدةِ السَّاحات، كما راق لهم تحريك ما سُمّي بجَبهاتِ المُساندة وفق ضَوابطِ مَحدودة، لكون تلك الضَّوابط تعفي كيانهم من تحمّل أعباء حرب مفتوحة على جبهات عِدَّة، واستغلوا هذه المُعادلة للإستفرادِ بمُكونات محور المُمانعة بدءاً بمنظَّمتي حماس والجِهاد الإسلامي، وربطوا النزاع مع حزب الله بمناوشات كانوا يتحكمون بأسقفها لحين إنهاك حماس والقضاء على معظم قُدراتها العسكريَّة، تاركين أمر التَّعامل مع مَخاطر الجبهاتِ البَعيدَةِ (أي اليمن والعراق وإيران) لحليفتِهم أميركا ومن يُساندَها من الدُّولِ الغربيَّة، مكتفيين بالإعلان عن الاحتفاظ بحق الرَّد.
جاء الرَّد الإسرائيلي على عمليَّة طوفات الأقصى غير متوقَّعاً إذ شنّوا حرباً شعواء استهلّْوها بغارات جويَّة مُركَّزة على الأحياء السكنية المحاذيةِ للمُستعمرات الصهيونية التي تلف قطاع غزَّة، ومن ثم تعمّدوا تخريب البنى التحتية، والقضاء على كل مقومات الحياة فيه، إلى حد لم تسلم منهم دور العبادة والمستشفيات والمراكز التربوية والجامعات وأماكان إيواء النازحين، مرتكبين أكبر وأوسع عمليَّة إبادة جماعية عرفتها البشريَّةُ بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، تخلَّلها الكثير من المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والاعتداءات الإرهابية، متذرّعين بوجود أسرى لدى حماس ومستفيدين من عجز الهيئات الدَّوليَّة، بما فيها مجلس الأمن، عن وضع حدّ لارتكاباتهم ولجم جموحهم وتهوّرهم، وأخذوا يسوّقون لفكرة تهجير سكان القطاع، إلَّا أن محاولتهم لم يكتب لها النجاح لصمود الشعب الفلسطيني ولرفض كل من مصر والأردن لهذا المُخطط.
أتقن قادة العدو المُراوغةَ بتبنيهم مواقفَ ملتبسة ومتناقضة تجاه حزبِ الله لقرابة عام من طوفان الأقصى، متظاهرين بأن مطالبهم تقتصر على وقف إطلاق الصواريخ على المُستعمرات من الأراضي اللبنانية، إنما كانوا في الخفاء يُعدّون العدّة ويستدعون ألوية الاحتياط ويستكملون التَّحضيرات ويستدركون أحدث الأسلحة والتَّقنيات من الولايات المُتحدة الأميركية وباقي الدُّول الغربية ومهّدوا للمعركة بمسلسلٍ من التَّصفيات مستهدفين القادة الميدانيين لحزب الله، وسدنة الصَّواريخ قَصيرة المَدى وبخاصَّة تلك المُضادة للدروع، ومن ثم أخذوا يصعّدون باستهدافات نوعيَّة طالت عدداً من قادة الحزب وقادة حماس المتواجدين في لبنان وبعض قادة الجماعة الإسلاميَّة فيه.
لم يكتفِ العدو باصطياد قادة ميدانيين ومسؤولين تنظيميين بمن فيهم صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، بل سعوا إلى استفزاز إيران لجرِّها الى حلبة الصِّراع فاغتالوا قادة تابعين للحرس الثوري مستكملين ما بدأوه عام 2020 باغتيال قاسم سليماني، كما أقدموا على اغتيالِ نوعيٍّ لقادة من الحرس الثوري في قلب القنصليَّة الإيرانيَّة في دِمشق في الأول من نيسان الفائت، واكتفت إيران بردّ شكلي بعد قرابة أسبوعين، الأمر الذي شجّع العدو على ارتكاب المزيد من الاغتيالات، وبادروا إلى استهداف القائد العسكري لحزب الله «فؤاد شكر» داخل معقل الحزب بتاريخ 30 تموز، وفي اليوم التالي اغتالوا إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية بينما كان يحلّ ضيفًا على مرشد الثورة، ورغم ذلك اكتفت إيران بالتَّوعُّدِ برد قاسٍ مفسحة المجال لحلول دبلوماسية؛ إلَّا أن المفاجأة الكبرى جاءت بتاريخ 17 أيلول حيث أقدم العدو وفي وقت مفاجئ على استهداف آلاف عناصر الحزب بواسطة عملية نوعيَّة طالت ما يزيد عن 3 آلاف في وقت واحد بتفجير أجهزة بايجر كانوا يحملونها كوسيلة اتصال، وأتبعوها بأخرى في اليوم التالي ولكن بتفجير أجهزة إتصال لاسلكية (ICOM)، وبدا الأمر واضحاً بأنهم على وشك شنّ حرب واسِعة، إلَّا أن المفاجأت تلاحقت باغتيال قائد قوة الرِّضوان «إبراهيم عقيل» وعدد من مساعديه على مقربة من المركز الرئيسي للحزب، ومن ثمَّ بدأوا بشنّ حملة مركَّزة من الغارات الجوية استهدفوا بها مئات مَخازن الأسلحة ومِنصَّات إطلاق الصواريخ على امتداد منطقتي الجنوب والبقاع.
وفي الوقت الذي بدأ الإسرائيليون حربهم المفتوحة على الحزب فوجئ المتابعون بانعطافة حادّة في الموقف الإيراني عبّر عنها رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان أثناء وجوده في نيويورك إذ أعلن أن ما بين إيران وأميركا أخوّة وأن بلاده لا تنوي دخول الحرب دفاعاً عن حزب الله، وأنها ميَّالة لحل سلمي، مضيفاً أن حزب الله غير قادر على مواجهة إسرائيل، وتَكرَّر ذات الموقف على لسان مساعده محمد جواد ظريف، الأمر الذي شجّع رئيس الوزراء الإسرائيلي على اتخاذ قرار لطالما كان توّاقاً إليه يقضي باغتيال الأمين العام لحزب الله، وتعمّد أن يكون التَّنفيذ أثناء وجوده في الأمم المتحدة في نيويورك بتاريخ 27 ملقياً كلمة بلاده أمام الهيئة العامَّة، وجاءَ خطابه بنبرة استعلائية نتيجة شعورة بالنشوة لما حققته قواته من نتائج ميدانيَّة، زاعماً أن كيانه يدافع عن الغرب، داعياً القادة الغربيين للحاق به وانضمام دولهم إلى إسرائيل في حربها المفتوحة في وجه من نعتهم بمحور الشر الذي تقوده إيران، مؤكداً عزمه على اغتيال قادة حزب الله ومن سيحلّ محل الذين يحلّون محلَّهم، وبدا وكأنه يعطي الإشارة بتنفيذ الاغتيال.
تسبب اغتيال الأمين العام للحزب بالمزيد من الإحراج للقيادة الإيرانية ما دفعها للرد بتاريخ 2 تشرين، إلَّا أن هذا الرد لم يردع إسرائيل التي أقدمت على استهداف السَّيد هاشم صفي الدين في اليوم التالي للرد الإيراني، زاعمةً أنه تم تعيينه أميناً عامًّا للحزب محل نصر الله، ومذ ذاك وسُبَّحة الاغتيالات لم تهدأ بعد.
أدّى ارتفاع وتيرة الإنتكاسات الإستخباراتية والميدانيَّة التي مُني بها الحزب، جرَّاء القضاء على معظم قيادييه الفاعلين، إلى إحداث خلل بنيوي في هيكليَّته، وعقَّد مسألة التَّواصُل ما بين القيادة والوحدات القتاليَّة، كما تسبَّب بإرباك في محور المُمانعة ككل، إلَّا أنه سُرعان ما استعاد القادة الميدانيون في الحزب زمام المبادرة مُصعِّدين من وتيرة إطلاق الصَّواريخ يومًا بعد يوم، موسِّعين من مدى ونطاق استهدافاتهم مستخدمين ما لديهم من صواريخ متوسِّطَة المدى. على الرغم من التفاوت الكبير بالإمكانات العسكرية والاستخباريَّة، كما استطاعوا منع العدو من التَّوغُل لغاية اليوم مبدين مهارات قتالية وبطولات ملحميَّة، ورغم بسالتهم وتضحياتهم الجسام تبقى النتائج رهن محدوديَّة فعاليَة الصواريخ التي لديهم مقارنةً بما لدى العدو من ترسانة، وهذا ما يبرر عدم التناسب في الخسائر ما بين لبنان والعدو.
ولا يسعنا في معرض الحديث عن الجبهة اللبنانية إهمال التَّطرُّق إلى الجبهة السوريَّة والتي بقيت هادئة رغم تماسها مع الكيان الإسرائيلي، ويعزى ذلك إلى رغبة النظام السوي في تجنّب حرب مباشرة ومعلنة مع العدوان لتفادي خسارة المزيد من الأرض، لذا اقتصر دوره على تسهيل إمداد الجبهة اللبنانية بالأسلحة والأمور اللوجستيَّة، وهذا ما يدفع بالعدو الإسرائيلي إلى الإصرار على إبقاء المطارات السوريَّة مُعطَّلة، وتعقّب شحنات الأسلحة الواردة من كل من إيران والعراق إلى لبنان وضرب أماكن تخزينها ووسائل شحنها سواء داخل الأراضي السوريَّة أم اللبنانيَّة، وهذا ما سينعكس على موقف العدو لجهة الإبقاء على وجود نِظام آل الأسد في الحكم، وربما سيعمل على إسقاطه كعقاب لتوفيره خطوط الإمداد لحزب الله.
يبقى تقييمُ جبهتي الإسناد البعيدتين عن الكيان أي العراقيَّة واليمنيَّة، لا يحتاج المحلل لكثير من الجهد والتحليل لنستخلص أن تأثيرهما مَحدوداً ويغلب عليه الطابع المعنوي الذي يعزز مشاعر التضامن، أما من الناحية العسكرية فيكاد لا يذكر، ويعزى ذلك لبُعد المسافة أولاً ولإمكانيَّة إسقاط ما يُطلق من صواريخ ومُسيَّرات خلال مساراتها، ولمَحدوديَّة قدراتها التدميريَّة ولعدم الدقَّة في الوصول إلى الأهداف. إلَّا أن عمليات استهداف السُّفن وناقلات النفط تسبَّبت بتعطيل ميناء إيلات الإسرائيلي وحرمت الكيان من عائداته الماليَّة، وأخطر من ذلك، تسبُّبها في إرباك وإعاقة حركة الملاحة البحريَّة، الأمر الذي أثار حفيظة الدُّول الغربيَّة ودفعها لأن تأخذَ على عاتقها مسألة التَّصدي لهذه الهجمات باعتراض الصواريخ والمُسيَّرات الجويَّة والبحريَّة التي تستهدف السفن كما الكيان الإسرائيلي، كما بتوجيه ضربات في عمق الأراضي اليمنية تستهدف أماكن تخزينها ومنصات إطلاقها بالإضافةِ إلى أماكن تواجد الخبراء الإيرانيين الذينن يتولون عملية إطلاقها، وربما تدفع بقادة العدو والغرب إلى إدراج مسألة إقصاء الحوثيين عن السُّلطة في صنعاء فيما لو توسَّعت الحرب. الجبهة العراقيَّة بدورها والتي يتولى تشغيلها قوات الحشد الشعبي في العراق وبعض المنظمات الراديكاليَّة التي تدعمها إيران، والتي كانت بادئ الأمر متفرغة لمناوشات تستهدف بعض القواعد الأميركية المنتشرة في العراق وسوريا، إلَّا أنها وسَّعت من مجال نشاطاتها بإطلاق بعض المُسيّرات باتجاه الأراضي المحتلَّة، إلَّا أن تأثيرها محدود كما هو الحال بالنسبة لمثيلاتها مما يطلق من اليمن.
بعد كل هذا التوصيف والتَّشخيص لا بدَّ من تقييم الوضع على ضوء النتائج التي أسفرت عن فتح الجبهة اللبنانية كجبهة إسناد وباقي الجبهات. لا يحتاج المحلِّل لكثير من الجهد ليستخلصَ أن فتح الجبهة اللبنانية لم يحقق الأهداف المرجوة، كونه لم يسهم في منع العدو من الوصول إلى أهدافه المعلنة «المتمثلة بتحرير أسراه والقضاء على قدرات حماس العسكريَّة» وغير المعلنة «أي تهجير سكُان قطاع غزَّة»، ذلك أن عدم تمكُّنه من تحرير جميع أسراه يُرد لقُدرة المُقاومين الفلسطينيين على المُجابهة ولاحتفاظهم بقدر كبير من السرية حول أماكن الاحتفاظ بالأسرى، ومن الناحية العسكريَّة تدعونا الموضوعية للإقرار أن العدو تمكّن من تقويض قدرات حماس القتالية رغم ما نشهده من عمليات محدودة بين فينة وأخرى، أما من الوجه الجيوسياسي فإنه هيَّأ الأرضيَّة لتهجير ما تبقّى من أهالي القطاع بقضائه على كل مقومات الحياة؛ ربّ مُستطرد يقول بأن فتح الجبهة اللبنانية صرف الانتباه العالمي عن أهوال ما يرتكبه العدو بحق الفلسطينيين؛ وثمَّة انعكاساتٌ سلبيَّة لفتح هذه الجبهة لا تقل عما حدث في غزَّة، بحيث أتاح للعدو الإسرائيلي الفرصة لتقويض قدرات حزب الله، والقضاء على معظم قيادييه، وتدمير العديد من المنازل في قرى الجنوب والبقاع وعدد من الأحياء السكنيَّة في بيروت وضاحيتها الجنوبيَّة، وأخطر ما في فتح جبهات المساندة دون الجبهة الإيرانيَّة أنها وضعت منطقة الشرق الأوسط برمَّتها أمام حرب غير متكافئة ومفتوحة قد تؤدي إلى القضاء على قدرات محور الممانعة وتغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
وفيما لو أردنا اختصار ما حقَّقته جبهات الممانعة يمكننا القول أنها تسبَّبت في القضاء على قدرات حزب لله، والعديد من مقاتليه وقياداته العسكريَّة والسياسيَّة والروحيَّة، وأعادت لبنان إلى عصر الاجتياحات الإسرائيليَّة المُتكررة، ووضعت النظام الإيراني أمام إمتحان كبير سرعان ما انكشفت هشاشة قدراته، وعدم صِحَّة الشعارات والمزاعم الإيرانيَّة وعدم استناد التهديدات التي كان قادته يُطلقونها على مُرتكزات حقيقيَّة، وأتاحت المجال أمام إسرائيل وداعميها لتصفية حساباتها مع النظام الإيراني والقضاء على قدراته العسكريَّة وبرنامجه النَّووي، وربما تقسيم إيرانيَّة ومنطقة الشرق الأوسط إلى دويلات أثنيَّة ومذهبيَّة متناحرة على غرار ما يحصل في بعض الدُّول العربيَّة، كل ذلك يدعونا للقول أن منطقة الشرق الأوسط هي فعلًا أمام تغييرات جوهريَّة تخدم المُخطَّط الصهيو – غربي؛ كما أنها ستخلف ورائها عشرات آلاف الشهداء ومئات آلاف المصابين الذين غالبيَّتهم من المعوقين، وملايين النازحين الذين أمسوا دون مأوى، والعديد من الأحياء السكنيَّة المدمَّرة وتدمير البنى التَّحتية الاستشفائيَّة والتعليمية والاقتصادية والتي تتطلب الكثير من التمويل والجهد والوقت لإعادة بنائها أو ترميمها وإصلاحها، هذا عدا عن تسببها بارتفاع أعداد المعوقين ونسبة العاطلين عن العمل إلى مستويات قياسيَّة.
نهاية هذه الحرب ستكون على غرار نتائج سابقاتها إن بقينا كأمة نتلهى بخلافاتنا العرقية والطائفية والمذهبية، وستُضيف نكسةً في سجل انتكاساتنا، وستبقى ماثلة في مُخيّلاتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى