الحريرية السِّياسيَّةِ ما بين الإنكفاء وتَصويبِ المَسار
بقلم: د عادل مشموشي
يولي معظم الأطراف السِّياسيين في لبنان أهميَّةً لعودة الشَّيخ بهاء الحريري «النَّجل الأكبر للشهيد رفيق الحريري» إلى لبنان من الباب السِّياسي، ويحرصون على متابعةِ تَحرُّكاتِهِ ومختلف نشاطاتِهِ ولو بصورةٍ غير مُعلنة؛ ويكادُ يكون هذا الأمر مِحورَ الأحداث السِّياسيَّةِ في لبنان لولا انشغال اللبنانيين بمتابعَةِ المُستجدَّاتِ على الجَبهَةِ الجنوبيَّة، حيث تتصاعدُ وتيرةُ الأعمالِ القتاليَّة بين حزب الله وجيشِ العدو الإسرائيلي، ولو على نحوٍ مُدوزنٍ ومن خلفِ خُطوط الجبهة، إلَّا أن الوضع يبقى عُرضةً للإنفلات في أيَّة لحظة وبالتالي التَّحول إلى حرب مفتوحةٍ تُستعملُ فيها كلُّ الأسلحة المُتاحة وتُقحَمُ فيها جهاتٌ إقليميَّةٌ من داخلِ الأراضي اللبنانيَّة أو من خارجها.
وعلى الرَّغمِ من حراجةٍ الأوضاع الإقليميَّة في منطقةِ الشَّرق الأوسطِ، يبدو أن الشَّيخ بهاء حزم أمره وعزم على الغوصِ في غمار السِّياسةِ من بابها العريض، بحضوره شَخصيَّا إلى لبنان، وإطلاقه بعض المواقِفِ التي توحي بأنه ماضٍ بمشروعِه، وهذا ما أوحى به عندما صرَّح أنه «لا رجوع إلى الوراء وماضٍ إلى الأمام في مَسيرَةٍ مُستمرَّة»، كما ويستشفُّ ذلك من مختلف النَّشاطات التي يقوم بها وبخاصَّةٍ لقاءاتِه الشَّعبيَّةِ في عددٍ من المناطق اللبنانيَّة والتي يتخلَّلُها لقاءاتٌ تُجرى خلف الأضواء؛ كل ذلك توطئةً لإطلاق مشروعِهِ السِّياسي الهادفِ إلى تصويبِ مسار الحريريَّةِ السِّياسِيَّة وإنقاذها من التَّرهُّلِ والضَّعفِ الذي اصابها، واستعادةِ دورها في النُّهوض بلبنان من كبوته.
إن إطلالة الشَّيخ بهاء السِّياسيَّةَ في الظُّروف السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والماليَّة والأمنيَّة القاهرةِ والحالَّةِ بلبنان تُذكِّرنا بتلك الظُّروف التي كانت سائدةً عندما أطلَّ والدُهُ الشَّهيد في نهاية ثمانينات القرن الفائت، حيث التَّفكك السياسي والانهيار الاقتصادي والمالي والانقسام العامودي بين الأقطاب السياسيين وحالةُ الإحباط لدى عموم اللبنانيين بالإضافةِ إلى الدَّمار الذي أحدثته الحرب الأهليَّة، إلَّا أن ثمَّة فارقاً جوهريًّا بين الوضعين، يتمثَّلُ في حالةِ العزلةِ السياسيَّة التي يشهدها لبنان اليوم، ومُصادرةِ قراره السِّياسي ومُحاولةِ دفعِه للإنخراطِ في مِحورٍ من المَحاورِ المُتصارعةِ والمُتناحرةِ إقليميَّا ودوليًّا، وانهيار قِطاعِه المصرفي، وإثقال خزانته بكم كبير من الدُّيون المُستحقَّة.
وعلى الرَّغم من أن والده الشَّهيد دخل إلى الحياة السياسيَّة بغطاءٍ دوليٍّ ودعمٍ سياسي ومالي عربي وبالتَّحديد من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة ومن خلفها باقي دول الخليج، ورغم ذلك جوبه مشروعُهُ النَّهضوي، الذي قام على إعادَةِ الإعمار والإزدِهار الاقتصادي، بمُمانعَةٍ سِياسيَّةِ ووضعت العراقيل في وجهه، وبذلت جهودٌ لتشويه مقاصده ولُفِّقت اتِّهاماتٌ لتقليب عامَّةِ الناس عليه، واعتُمِدت شِعاراتُ رنَّانة لتضليل الرأي العام «كإعمار البشر قبل إعمار الحجر»، و«من يريد التَّعمير لا يريد التَّحرير» وغيرها من المَقولاتِ الزَّائفة التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، ولمَّا أيقنوا أن كل تلك المُمارساتِ لن تثنيه عن المضي في مشروعه التَّنموي، عمدوا إلى تصفيتِهِ جسديًّا. وأتبعوا ذلك بموجةِ اغتيالات إرهابيَّة، فأعادوا لبنان واللبنانيين إلى مُستنقع التَّخلُّفَ ليتخبَّط مُجدَّداً بأزمات شائكةٍ مُتشابكة.
لن يكون الجو السِّياسي في لبنان الذي سيتحرك في ظلِّه الشَّيخ بهاء الحريري أفضل من ذاك الجو الذي كان قائماً عند مزاولة والده المغفور له لنشاطه السِّياسي، وعليه بطبيعةِ الحال أن يأخُذَ كُلَّ ذلك في الحُسبان. كما أن محاولات العرقلة التي قد يواجهها لن تكونَ أقلُّ شراسةٍ مما واجهه والده، ولا شقيقه دولة الرئيس سعد الحريري، وقد لا تقتصرُ مصادرها على الرافضين لنهجِ الحريريَّةِ السِّياسيَّةِ التي أرساها والدهما، إنما يتكون مُعارضة حادَّةً يُستغلُّ فيها بعضٌ من أبناء طائفته السَّاعين إلى السُّلطةِ ومُعظمُهم من أولئك الذين تسلِّقوا على أنقاض الحريريَّة السِّياسيَّةِ بعد استشهادِ مُرسيها، مُستغلِّين ضَعف القيادةِ السياسيَّةِ في التَّيَّار الأزرق وكثرةِ التَّردُّد في قراراتِها وتبنيها لخيارات سِياسِيَّةٍ غير مدروسةِ واستسهالها لتقديم التَّنازلات وبناءِ تَحالفاتِ خاطئةٍ تخدمُ المصالحُ الشَّخصيَّةُ لبعضِ المُقرَّبين والمُرافقين الذين نجَحوا في إبعاد كبارِ المُستشارين الذين كان يستعين بهم رفيق الحريري، الأمرُ الذي أحدث فراغاً في صناعَةِ القرار.
إن حالة التَّراجع التي شهدتها الحريريَّةُ السياسيَّةُ خلال فترة تولي الشَّيخ سعد لقيادة التَّيار الأزرق، رغم الإلتفاف الشَّعبي غير المسبوق من حوله على مستوى الطَّائفة كما لجهةِ التَّعاطف معه من عموم اللبنانيين، تُعزى إلى جُملةٍ من الأمور، يندرجُ في طليعتها: افتقادُهُ على المُستوى الشَّخصي للخِبرَةِ السِّياسِيَّةِ بادئ الأمر ولعدمِ نُضجِهِ السِّياسي رغم مُزاولتِهِ للسِّياسَةِ لما يزيد عن عقدين من الزَّمن، ولافتقادِه على المُستوى الشَّخصي إلى بعضِ المزايا القياديَّةِ كالحزمِ والجرأة في اتِّخاذِ القرارِ وصلابَةِ الموقفِ وعدم التَّردُّد والحِنكةِ السِّياسيَّةِ والقُدرة على بذل مجهود فكري كما المثابرة والمُتابعة لأدقِّ التَّفاصيل والبُعدِ عن المُسايرة، وهي مزايا لا تُغني عنها طيبةُ قلبه ودماثة خلقه وصُدقِه وروح الفُكاهَةِ لديه، ويُضافُ إليها ضَعفُ الفريقِ المُحيطِ به وبخاصَّةٍ أولئك المُخولين بصِناعةِ القرارات هذا إن وجدوا.
حالة الوهن التي أصابت التَّيار الأزرق، أدَّت إلى انكفاءِ دور المُكون السُّني في لبنان، والذي فوجئ بإعلان الشَّيخ سعد عن اعتزاله العمل السِّياسي والطَّلب من محازبيه ومناصريه تعليق الأنشطة السياسيَّة، فأحرج الطَّائفةَ بعدَ أن قوَّضَ مكانتها وأفقدَها دورها الريادي في بلورةِ الخياراتِ السياسيَّة الوطنيَّة بتخليه عن المناصبِ الخاصَّةِ بها وتبني قانون انتخابي يتعارضُ مع حسن تمثيلها في البرلمان، الأمرُ الذي أربكَ طوائفَ أخرى نتيجةَ الاختلالِ في مُرتكزات الاستقرار السِّياسي التي كانت قائمَة.
ثمَّةَ من بدأ بإعدادِ العدَّةِ للتَّصدي لمساعي الشَّيخِ بهاء الهادفةِ إلى استعادةِ دور الحريريَّة السِّياسِيَّة، وإن مؤشِّراتُ ذلك تظهرُ على شكل انتقادات شكليَّة تافهة، فأن تصدِّيهم لما يطرحه في مشروعِه السِّياسي لا يُعزى لعدم اقتناعهم بما هو مطروحٌ من أفكار ورؤيةٍ سِياسيَّة، إنما لدوافع تنمُّ عن أحقادٍ شخصيَّةِ وفئويَّةٍ بعيدةً كُلَّ البُّعدِ عن الهموم الوطنيَّة ولأغراض النِّكايةِ السِّياسيَّة التي اعتادوا عليها وأنهكت لبنان وتهدِّد مصيره، لكونهم يُفضِّلون التَّعامُلَ مع شخصيَّاتٍ سنيَّةِ أضعفَ ممن يبيعون المواقف العامَّة ليشتروا بها منافعَ شخصيَّة.
سواء كانت عودة الشَّيخ بهاء إلى لبنان، وإعلانه عن نيَّته بخوضِ غمار العمل السِّياسي قد جاءت بعد إستنكافِ شقيقه الشيخ سعد «الذي يصغره سنًّا» عن الحياة السِّياسيَّة وبتنسيقٍ معه أو من دونه، على الجميع ودون استثناء إعطائه الفرصةَ علَّه يستطيع أن يعملَ وفق منهاجِ والده، وينقذ لبنان مما هو فيه ويُخرجُهُ من مُستنقعِ الأزماتِ وينهضُ به مجدَّداً ويضعه على مسار الإزدهار الاقتصادي والنُّمو الإجتماعي والرَّخاء المَعيشي، وخاصَّةً بعد فشل كُل المُحاولات وعقم كل المُقاربات المعتمدة منذ حصول الانهيار عام 2019.
إن الشَّيخ سعد، بعد أن أُعطِيَ فَرصاً كافيَةً للعبِ دور سياسي ريادي في لبنان، وعجزَ عن تحقيق المُرتجى منه، مطالبٌ في الوقوف إلى جانبِ شقيقِهِ الأكبر ويعينه في مَسعاه الوطني، كما أن الطَّائفةَ السُّنيَّةَ في لبنان مَدعوَّةٌ بكلِّ مُكوِّناتِها للإلتفافِ حوله علَّه ينجحَ في أن يعيدَ إليها موقِعها ومَكانتها ودورها إلى جانبِ المُكوناتِ الوطنيَّة الأخرى. وفي المقابل من المُتوجِّب على الشَّيخ بهاء تسخير كُل إمكاناتِهِ والخُبراتِ التي اكتسبها من مزاولةِ نشاطاتِهِ الإستثماريَّةِ لخدمَةِ لبنان، وأن يعملَ سياسيًّا وفق روحيَّةِ المقولة التي أطلقها مؤخَّراً، «لا عودةَ إلى الوراء بل التَّطلُّع إلى الأمام» خدمةً للبنان ولتحقيق مستقبل زاهر لكل اللبنانيين؛ وذلك بالإنفتاح على كافَّةِ المٌكونات السيَّاسيَّةِ الوطنيَّة التي تؤمنُ بوحدةِ لبنان وتلتقي على ضرورةِ احترام سيادته واستقلاله وتنوُّعِه وانتمائه إلى العالم العربي، والمقتنعةِ بضرورةِ تحييده عن مَخاطرِ الإصطفافِ في أيٍّ من المحاورِ الدَّوليَّةٍ أو الإقليميَّةِ المُتناحِرةِ أو الانزلاقِ في أتونِ صِراعاتها؛ والحريصةِ أيضاً على بناءِ شراكاتٍ داخليَّةِ حقيقيَّة ومتوازنة، والتَّعاون الصَّادقِ والشفَّافِ في كلِّ ما من شأنه بناء دولةٍ عصريَّةٍ وتحقيقِ الرَّفاه للمُواطنين.