البطريرك صفير يروي: هكذا صرت بطريركاً (5 من 8) نريد بطريركاً لا مدبّراً
كتب نجم الهاشم
عندما توجّه المطران نصرالله صفير إلى روما لم يكن هناك موعد محدد مسبقاً مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. كان صفير يراهن على الحصول على موعد مع قداسته ليضع بين يديه مسألة أزمة الكنيسة وقدر المسيحيين في لبنان والشرق. في لقاءاته التمهيدية قبل لقاء البابا بدا مدافعاً بقوة عن موقف المطارنة المعترض على قرار البابا تعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّراً رسولياً. اللقاء مع رئيس المجمع الشرقي الكاردينال لوردو سامي كان الأخير قبل اللقاء المنتظر مع البابا، وقد لعب المونسنيور منجد الهاشم، الذي كان يعمل في أمانة سر دولة الفاتيكان، دوراً في تسريع تحديد الموعد. ماذا دار في اللقاء مع الكاردينال سامي وماذا روى البطريرك صفير؟
لم يكتفِ المطران نصرالله صفير باللقاءات الثانوية مع المسؤولين في الكرسي الرسولي ومجمع الكنائس الشرقية لنقل وجهة نظر المطارنة الموارنة المعارضة للتدبير الفاتيكاني الذي قضى بتعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّراً بطريركياً. ما كان يقوم به لم يكن مهمة سهلة ولكنّه تسلّح بالكتاب الذي أجمع عليه المطارنة وذهب ليناقش في مضمونه. كان ينتظر أن يلتقي قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وكانت لديه رهبة من هذا اللقاء، خصوصاً أنّه عرف أنّ الكرسي الرسولي مستاء من مضمون الكتاب الاعتراضي. تظهر هذه الرهبة من خلال الوصف الدقيق الذي أولاه المطران صفير لاحقاً لجناح البابا وللقاء وللحوار الذي دار بينهما، وأنهاه البابا قائلاً له: «يجب إيجاد رجل قوي يتحمل المسؤولية ويمكنك أن تخبر هناك أنني مهتم بالأمر»، في إشارة منه إلى المطالبة بانتخاب بطريرك جديد. في ذلك اللقاء لم يكن صفير ليفكِّر بأنه سيكون ذلك البطريرك.
لن يعود خالي الوفاض
فيما كان المطران نصرالله صفير يتابع في روما حضور الاجتماعات الخاصة بأعمال لجان الحق القانوني، كان منصرفاً إلى استكمال لقاءاته الخاصة بأمور البطريركية المارونية في بكركي. خرج مرتاحاً إلى نتيجة اللقاء المطوَّل والمفصّل مع المونسنيور ريزي والأب بروجي، معتبراً أنّه اجتاز نصف الطريق للقاء الذي ربما جاء من أجله مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، باعتبار أنّ القرار النهائي يبقى عنده، وأنّ اللقاءات الأخيرة التي يعقدها هدفها التمهيد لهذا اللقاء، آملاً في أن ينقل المسؤولون الفاتيكانيون الذين يجتمع بهم الصورة الصحيحة إلى قداسته من أجل أن يكون لقاؤه معه ناجحاً.
فهو لم يكن في أي حال يرغب في العودة إلى بكركي خالي الوفاض، بحيث يستمر الوضع على ما هو عليه، مدركاً خطورته على الكنيسة المارونية وعلى لبنان، بالإضافة إلى معاناته الشخصية بسببه من خلال الطلب الذي تلقاه من المدبّر ابراهيم الحلو بالبحث عن مقر آخر خارج بكركي. لقد وعده رئيس المجمع الشرقي الكاردينال لوردو سامي بتأجيل لقائه معه إلى 25 كانون الثاني 1986، ووفى بوعده وكان صفير مستعدّاً تماماً لهذا اللقاء.
مع الكاردينال سامي
عند الساعة العاشرة والنصف ترك قاعة اجتماعات اللجنة القانونية واتّجه إلى مكتب الكاردينال سامي. استقبله أمين السر المونسنيور بروني ودعاه إلى الانتظار بعض الوقت في غرفة الانتظار، فدخلها ووجد فيها بعض الأساقفة الذين ينتظرون بدورهم، ومن بينهم مطران الكلدان في مصر يوسف صراف ومطران الأقباط مرقس حكيم. بعد عشر دقائق تقريباً دعاه بروني إلى الدخول، فوقف ودخل. سلّم عليه الكاردينال وعانقه وبادره بالاعتذار عن عدم تمكنه من استقباله في اليوم السابق: «أعذرني لعدم تمكُّني من مقابلتك بالأمس لكثرة المقابلات». قال له وهو واقف قبل أن يتوجّه للجلوس إلى مكتبه. ويبدو أنّه كان استعدّ أيضاً لهذا اللقاء. أخذ من على مكتبه الدليل الحبري وبحث فيه عن إسم صفير ولما وجده قال له: «هل تسكن في بكركي»؟ أجاب بالإيجاب. سأله مجدَّداً: «وأين يسكن البطريرك خريش»؟ قال له: «في بكركي أيضاً». تابع: «وهل يسكن المدبّر الرسولي معكما»؟ ومرة ثالثة أجاب صفير: «نعم».
بعد ذلك، دخل صفير مباشرة في صلب الموضوع الذي جاء من أجله حتى لا ينقضي الوقت المخصص للمقابلة بالحديث في المجاملات. فمن خلال الأسئلة الأولى التي طرحها عليه الكاردينال سامي اتّضح لصفير تلقائياً أنّه أراد أن يقول له بصورة غير مباشرة أنّه ملمّ بتفاصيل الملف البطريركي. قال له صفير: «زيارتي لك هي للتعرّف وللتهنئة بالمنصب الجديد الذي تشغله، ولأضع نيافتك في جو الطائفة المارونية عامة»… شكره الكاردينال على عاطفته الشخصية وأشار بمتابعة الحديث، فتابع صفير: «المسيحيون في لبنان وفي المنطقة بخطر والظرف عصيب والحالة متأزمة، ويجب في الوقت الذي يتقرّر فيه مصير لبنان والكنيسة المارونية أن يكون هناك بطريرك يتحمّل مسؤولياته كاملة».
سينُتخَب بطريرك ولكن
هكذا اختصر له صفير الوضع بكلمات قليلة معبِّرة. أجاب سامي: «هذا صحيح ولذلك سُمِّي المدبّر المطران ابراهيم الحلو ليُعِدّ انتخاب بطريرك». سأله صفير: «هل اطلعتم على الكتاب الذي وجّهه المطارنة إلى قداسته»؟ وكأنّه كان يريد أن يقول له إنّ هناك معارضة لهذا التدبير من غير أن يصدر عنه هذا الكلام مباشرة. أجابه الكاردينال: «نعم». ثم نهض من وراء مكتبه وأتى بملف وفتحه وأراه نسخة عن هذا الكتاب. ثم قرأ أسماء الموقعين عليه معلّقاً: «إنهم عشرة». رد صفير: «لا بل إنهم أحد عشر وهم المطارنة الموارنة الموجودون في لبنان وسوريا، أما من هم في بلدان الاغتراب فلم ينفسح المجال للاتصال بهم للتوقيع». وكأنه أيضاً كان يريد أن يقول له إنّه لو تمّ الاتصال بهم لكانوا وقّعوا أيضاً. فكّر الكاردينال قليلاً ثم قال لصفير جازماً: «سينُتخَب بطريرك لكن بعد أن تهدأ الأفكار».
بدا لصفير أنّ ثمة مكسباً تحقّق على جبهة انتخاب بطريرك جديد، فانتقل إلى موضوعه الشخصي، فقال للكاردينال سامي: «طلب سيادة المدبّر منّي ومن سيادة المطران رولان أبو جودة أن نختار بين الإقامة في الكرسي البطريركي أم في إحدى مناطق الأبرشية. فأجبناه أنّه لا يمكننا أن نجيب ونختار قبل معرفة من سيكون بطريركاً، لئلا يأتي من لا يريد أن يتعاون معنا أو نحن لا نريد أن نتعاون معه». فأجابه سامي: «هذا صحيح. لا يمكن الاختيار في هذه الحال قبل انتخاب بطريرك». ثم سأله: «وماذا أجابكم»؟ ردّ صفير: «لم يجب بشيء».
بعد عشرين دقيقة تقريباً، اقترب اللقاء من نهايته. وقبل أن يقف صفير للمغادرة سأله الكاردينال عن المدة لتي ستستغرقها إقامته في روما، فقال له إنّه سيبقى أسبوعاً بعد. علّق الكاردينال: «ليس لي سوى أربعة أيام لأسافر بعدها مع قداسة البابا إلى الهند». تمنّى له صفير سفراً موفّقاً مع قداسته مدركاً أنّ عليه أن يلتقي قداسته قبل سفره، أي خلال أربعة أيام، ثم استأذن بالمغادرة وودّع الكاردينال الذي بدا له ذكيّاً، قريباً من الناس، ودوداً، أنيق الملبس على سمرة هندية حادقة ولهجة فرنسية متعثرة.
مع المونسنيور منجد الهاشم
يوم الأحد 26 كانون الثاني 1986 العاشرة والنصف صباحاً، لم يفوِّت المطران صفير موعده مع القداس في كنيسة مار مارون وقد ترأسه المطران إميل عيد وعاونه خمسة آباء من الكهنة الدارسين في المدرسة. بعد القداس انتقل الجميع إلى قاعة الاستقبال، وكان طبيعياً أن تكون الأحاديث المتبادلة عن الوضع في لبنان. هناك التقى صفير المونسنيور منجد الهاشم، الذي كان يعمل في أمانة سر دولة الفاتيكان، والأب باسيل الهاشم، وقد تابعوا الحديث الى مائدة الغداء حول التدبير الفاتيكاني بتعيين المطران الحلو مدبّراً بطريركياً.
فهم صفير من حديث المونسنيور الهاشم أنّ أمين السر المساعد في أمانة سر دولة الفاتيكان المطران أشيل سيلفستريني أبدى تعجبه من وجود المطارنة الموارنة في حفلة تطويب الطوباوية رفقا بعدما كانوا أبدوا رغبة في تعذر مجيئهم إلى روما لانعقاد مجمع ماروني فيها، وأنّ هناك تناقضاً بين الموقفين. وعلم صفير منه أيضاً أنّ الكتاب الذي وجّهه المطارنة الموارنة إلى قداسة البابا ويطلبون فيه الإذن بانتخاب بطريرك جديد، قد وصل إلى أمانة سر الدولة البابوية قبل عشرة أيام، وأنّه على أثر ذلك قال سيلفستريني للهاشم: «أهكذا يكتب المطارنة الموارنة إلى البابا»؟ وقد ردّ عليه الهاشم: «يجب أن تكونوا مكانهم لتفهموا موقفهم. لقد كان عدد منهم في روما عندما تمّ اتخاذ التدبير ولم يسألهم أحد رأيهم. ماذا كان حصل لو جمعتموهم يومذاك وأخبرتموهم بالأمر وسألتموهم أن يتقبّلوه ويعاونوا المدبّر؟ لكنتم وفرتم عليكم وعليهم الإحراج القائم».
سأل صفير الهاشم عما إذا كان من المناسب أن ينتظر سيلفستريني للاجتماع به، خصوصاً أنّه، أي سيلفستريني، عرف أنّه في روما بعدما تناول، أي صفير، طعام الغداء مع المونسنيور لويجي غاتي وجان لوي توران بدعوة من المحامي محسن سليم، وخصوصاً أيضاً أنّ غاتي لم يطلب منه أن يراه ولا تحدّث معه في موضوع لبنان. وقال صفير للهاشم: «لا أريد أن أتطفل على أحد ولست طالباً أي شيء. لكنّني طلبت مقابلة البابا لأقدّم له مجموعة رسائله التي ترجمتها إلى العربية. هذا كل شيء».