متفرقات

كلُّ جمعةٍ عندنا عظيمة

بقلم : الوزير السابق جوزف الهاشم

 

… وهذه أورشليم لا تزال كما تركتَها رازحةً تحت نيـرِ الرومان ، وتحت طائلةِ سخْطِ الله ، وباتَتْ كمثل ما تنبَّأتَ لها حيت قلت : “ستأتي أيامٌ يُحيطُ بكِ أعداؤك ، يحاصرونك من كلّ جهـةٍ ، يهدمونكِ ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر …”(1)

ولا يزال سكانها يعانون أهوال الحصار والموت والدماء : الآباءُ والأمهاتُ والأبناءُ يتقاسمون الجـوع ويتخاطفون الخبز .

ولأنّ الجنون عند اليهود ليست لَـهُ حدودٌ عقليةٌ وحدودٌ جغرافية ، فقد وصلت إلينا جرائمهُمْ وشرائعهم ، وكان عندنا : هيرودس وبيلاطس ويهوذا ، وكهَنَـةٌ وصيارفة وفرّيسيّون … وفي بيوت الصلاة لصوص .

حين كنتَ مصلوباً على الصليب ، تحت طعْنٍ الحراب ، ووَقْع السياط ، الـدمُ يتقطّر من إكليل الشوك على رأسك والجبين ، يداك والقدمان مثقوبةٌ بالمسامير ، وقبل أن تلفظ أنفاسك الأخيرة قلت لمن صلبوك : “إغفر لهم يا أبتاه”.

هل يغفـرُ أبوك لهم وقد جعلوه مقاتلاً دمويّـاً لينتصروا بسلطة الـدم والعنف ، وأنت تدعو إلى الإنتصار بسلطةِ الله التي ترتكز على المحبّة والرحمة .. وهو الرحمان الرحيم …؟

وهل يغفـرُ الله لليهود على ما ارتكبوا من آثـامٍ ويرتكبون ، وأنت “رفَعَك الله بيمينهِ مخلِّصاً لتعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا …؟”(٢)

وهل استطاعت المسيحية أن تحمي نفسها من أعدائها بالمحبة والرحمة ، وأنت توصي المسيحيين بمحبة أعدائهم …؟

لأنّ الذين اجتمعوا باسمك ، كلما اجتمع اثنـان منهم يكون بينهما الشيطان … ولأنّ بيتكَ أكثر ما يحتاج في هذا الزمان إلى فرسان لا إلى فريّسييّن ، فلا يزال الذين ينادون باسمك يتعرّضون للعيش في سراديب الموتى ، خوفاً من أنّ يرميهم “نيـرون” لأنياب الذئاب في ساحة رومـا .

“كونوا حكماءَ كالحيّات وبسطاء كالحمام ..(3) ” فكانوا كالحيّات ولا حكيم ، وكالحمام ولا أجنحة .

لأننا يا سيد .. “رأينا الشرَّ تحت الشمس ، والحمقى يُرفَعون إلى أعلى المراتب ..”(4) أصبحتْ كلُّ أيامنا جمعةً بل جمعاتٍ عظيمة ، نتجرّع المـرّ ، نُطعن بالحراب ، نُصلَبُ على ألف جلجلةٍ وصليب .

مملكتُك أنت لم تكن من هذا العالم ، ومملكتنا لا تزال مسمَّرةً في عالم متوحّش ، معلّقةً على خشبة الإنهيارات والفراغات .

أنتَ رجَوْتَ أباك أن يرفع عنك تلك الكأس فرفَعك إلى السماء …

ونحن رجَوْنا أبانا أن يرفع عنّّا الكأس فبشَّرنا بجهنّم …

عندما رفض أهلُ “الناصرة” الإيمان بك ، تركتهم ونزحتَ تبشِّرُ في مكان آخـر وقلت : “ليس لنبيٍّ كرامةٌ في وطنـهِ …”(5)

ونحن بسبب نزوح الإيمان بلبنان ، لم يعد لنا كرامةٌ في وطننا ، وأصبحنا نازحين في وطـنٍ للنازحين .

ومع كلِّ هذا الشقاء والبلاء ، لن نفقد الأمل بالرجاء ، حيثُ “الطريق والحـقّ والحياة” ، ولن نفتّشَ عن الله في المعسكرات والمعابد الطائفية وهو أكثر ما يكون على طريق الإنسانية المعذبة .

لا نزال نؤمن بأنّ القيمَ الإلهية لن تكون خاضعةً للقلوب المتحجرّة والأرواح الشريرة ، “سأنزع من لحمكم قلبَ الحجر وأُعطيكم قلباً من لحم”.(6)

ولا نزال نؤمن بقيامتنا وقيامتك من دون أن نضع أصابعنا في الجرح وآثار المسامير .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – لوقا : 19 – 42 – 44 . 2 – أعمال : 5 – 31 . 3 – متى : 10 – 16 . 4 – سفر الجامعة : 10 – 5 – 6 . 5 – يوحنا : 4 – 44 . ٦ – حزقيال : 36 – 26 .

عن جريدة الجمهورية

بتاريخ : 29/3/2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى